شرح
حديث (إنما الأعمال بالنيات)
خالد
بن سعود البليهد
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.
هذا الحديث أصل عظيم في الدين ، وموضوعه الإخلاص في العمل وبيان اشتراط النية وأثر ذلك، وبه صدر البخاري كتابه الصحيح وأقامه مقام الخطبة له إشارة إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا والآخرة. وهو أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها قال الشافعي هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه وقال أحمد أصل الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر الأعمال بالنيات وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين.
وفي الحديث مسائل:
الأولى: قوله (إنما الأعمال بالنيات) هذا يقتضي الحصر والمعنى إنما الأعمال صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة بالنيات ، فيكون خبرا عن حكم الأعمال الشرعية فلا تصح ولا تحصل إلا بالنية ومدارها بالنية.وقوله (وإنما لكل امرئ ما نوى ) إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا مانواه به فإن نوى خيرا جوزي به وإن نوى شرا جوزي به وإن نوى مباحا لم يحصل له ثواب ولا عقاب ، وليس هذا تكرير محض للجملة الأولى فإن الجملة الأولى دلت على صلاح العمل وفساده والثانية دلت على ثواب العامل وعقابه .
الثانية : النية (لغة) القصد والعزيمة.و(اصطلاحا) هي القصد للعمل تقربا إلى الله وطلبا لمرضاته وثوابه. وتطلق النية في كلام العلماء على معنيين:
(1) نية المعمول له: أي تمييز المقصود بالعمل هل هو الله وحده لا شريك به أم غيره أم الله وغيره ، وهذا المعنى يتكلم فيه العارفون في كتبهم من أهل السلوك الذين يعتنون بالمقاصد والرقائق والإيمانيات.
وهو المقصود غالبا في كلام الله بلفظ النية والإرادة فال تعالى (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وكذلك هو المقصود غالبا في السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله مانوى) رواه أحمد ، وهذا كثير في كلام السلف قال عمر "لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له " وقال يحي بن أبي كثير "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل" وقال سفيان الثوري"ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي" .
(2) نية العمل: أي تمييز العمل ، فلا تصح الطهارة بأنواعها ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها ، فينوي تلك العبادة المعينة، وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع كالصلاة منها الفرض والنفل المعين والنفل المطلق ، فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة ،وأما المعين من فرض ونفل فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين وهكذا بقية العبادات.
والأمر الثاني: تمييز العبادة عن العادة ،فمثلا الإغتسال يقع نظافة أو تبرد ويقع عن الحدث الأكبر وعن غسل الميت وللجمعة ونحوها ،فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث أو ذلك الغسل المستحب ،وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلا للزكاة أو الكفارة أو للنذر أو للصدقة المستحبة أو للهدية فالعبرة في ذلك كله على النية ،وكذلك صور ومسائل المعاملات العبرة نيته وقصده لا ظاهر عمله ولفظه .ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها فإن الوسائل لها أحكام المقاصد صالحة أو فاسدة والله يعلم المصلح من المفسد.
الثالثة: قوله"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم مثالا من الأعمال التي يختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات ،وكأنه يقول سائر الأعمال تقاس على هذا المثال .والهجرة هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في إظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا ،ومن كان مهاجرا لغرض إصابة الدنيا أو نكاح المرأة فهذا مهاجر لأجل الدنيا وليس لأجل الآخرة ولا يؤجر على ذلك،وفي قوله "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به.وسائر الأعمال كالهجرة في هذا كالجهاد والحج وغيرها ،ففي الصحيحين عن أبي موسى "أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ، وقد ورد الوعيد في تعلم العلم لغير وجه الله كما أخرجه أحمد من حديث أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها.
الرابعة: ينقسم العمل بالنسبة للرياء من حيث حكمه إلى ثلاثة أقسام:
1- أن يكون أصل العمل رياء خالصا بحيث لا يراد به إلا مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال تعالى(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) وهذا الرياء الخالص لا يصدر من مؤمن حقا وهذا العمل حابط وصاحبه مستحق للمقت والعقوبة.
2- أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء في أصله فالنصوص الصريحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضا ،ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" ،ولا يعرف عن السلف في هذا القسم خلاف بينهم.
3- أن يكون أصل العمل لله ثم يطرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استجاب له فهل يحبط عمله أم لا:الصحيح أن أصل عمله لا يبطل بهذا الرياء وأنه يجازى بنيته الأولى ورجحه أحمد والطبري ،وإنما يبطل من عمله ما خالطه الرياء.
أما إذا خالط نية العمل نية غير الرياء مثل أخذ الأجرة للخدمة أو شيء من المعاوضة في الجهاد أو التجارة في الحج نقص بذلك الأجر ولم يبطل العمل قال أحمد : التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وليس من الرياء فرح المؤمن بفضل الله ورحمته حين سماع ثناء الناس على عمله الصالح فإذا استبشر بذلك لم يضره لما روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه فقال:تلك عاجل بشرى المؤمن "رواه مسلم .
الخامسة: تتفاضل الأعمال ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص ،حتى إن صاحب النية الصادقة إذا عجز عن العمل يلتحق بالعامل في الأجر قال الله تعالى( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وفي الصحيح مرفوعا "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما" وفيه أيضا "إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" . وإذا هم العبد بالخير ثم لم يقدر له العمل كتبت همته ونيته حسنة كاملة ففي سنن النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم ويصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه".
السادسة: تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية ،فمن نوى بكسبه وعمله الدنيوي الإستعانة بذلك على القيام بحق الله وحقوق الخلق واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وجماعه انقلبت العادات في حقه إلى عبادات وبارك الله في عمله وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال ،ومن فاتته هذه النية لجهله أو تهاونه فقد حرم خيرا عظيما ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" وقال ابن القيم "إن خواص المقربين هم الذين انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين بل كل أعمالهم راجحة".
السابعة: الهجرة في سبيل الله من أجل الطاعات وأعظم القربات ، وهذه الشعيرة باقية إلى قيام الساعة، وتنقسم الهجرة باعتبار حكمها إلى قسمين:
1- هجرة واجبة وهي الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) وتسقط الهجرة عن العاجز عنها قال تعالى (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).
2- هجرة مستحبة وهي الإنتقال من بلد البدعة إلى بلد السنة ومن المعصية إلى الطاعة ، وقد كان كثير من السلف يهاجر لذلك.
• وتجوز الإقامة في بلد الكفر على الصحيح من أقوال أهل العلم بشروط:
1- أن يكون قادرا على إظهار شعائر الدين.
2- أن يأمن الفتنة على دينه.
3- أن يأمن الفساد على أهله وولده .
فإن خشي ذلك وغلب على ظنه فلا يجوز ، ومع ذلك فإن الأحوط للمؤمن عدم الإقامة في بلد الكفر إلا أن تكون المصلحة راجحة في بقائه كاشتغاله بالدعوة والتعليم وله كلمة وتأثير في الناس .
ولا يجوز مطلقا الإقامة في بلد الكفر مع انتفاء الشروط أو بعضها لغرض طلب الرزق والتوسع في المعاش أو غير ذلك ، وقد فرط بعض المسلمين هداهم الله ، ومن فعل ذلك فقد ارتكب جرما عظيما وعرض نفسه للخطر وهو باق على دينه لا يكفر إلا إذا حصل منه ما يوجب ردته والله المستعان.
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره
، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا
مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله .
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أجسامكم ، ولكن
ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "فالنية عليها مدار الأعمال كلها ،
ويعتمد صحة الفعل وفساده عليها . وقد اتفق
العلماء على أن الأعمال الصادرة من المكلفين المؤمنين لا تصبح معتبرة شرعاً ولا
يترتب عليها الثواب إلا بالنية .
وتجري النية في أبواب كثيرة من أبواب الفقه ، بل جُلها
على الأصح ، لذلك اختيرت لأن تكون من القواعد الفقهية الكلية الكبرى ، والتي صدّر
الإمام البخاري صحيحه بها .
لقد تم تقسيم البحث – بعد المقدمة - إلى فصلين وخاتمة ، كالتالي :
الفصل الأول : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : أصل القاعدة – تعريفها
– أهميتها .
المبحث الثاني : مباحث في النية .
الفصل الثاني : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : بعض القواعد المندرجة
تحت قاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
المبحث الثاني : القواعد المستثناة من
قاعدة : " الأمور بمقاصدها
" .
الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصل إليها البحث .
اللهم علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا
علم
الفصل الأول
حقائق عن القاعدة
ومباحث عن النية
المبحث الأول :
أصل القاعدة وتعريفها وأهميتها
أولاً :
أصل القاعدة :
الأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات" وهذا الحديث
صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب[1][1].
معظم
الروايات " إنما الأعمال بالنية " بجمع الأعمال وإفراد
النية . وفي رواية عند البخاري في بدء الوحي (
إنما الأعمال بالنيات ) بجمع النيات أيضاً ، وفي رواية عنده في الإيمان
والعتق والهجرة : " الأعمال بالنية " بالإفراد وحذف " إنما "
، وفي رواية في النكاح : " العمل بالنية " بإفرادهما[1][2].
أما روايات مسلم السبعة : " إنما الأعمال بالنيات
" . وعند البيهقي في سننه من حديث
أنس : " لا عمل لمن لا نية له " .
وفي مسند الشهاب من حديثه : " نية المؤمن جزء من عمله " . وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : "
إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في فِيّ امرأتك
" . ومن حديث ابن عباس : " ولكن جهاد ونية " . وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود : " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته
" . وعند ابن ماجه ، من حديث أبي
هريرة ، وجابر بن عبدالله : " يبعث
الناس على نياتهم"[1][3].
ثانياً :
تعريف القاعدة :
الأمور : جمع أمر وهو : لفظ عام للأفعال والأقوال كلها ،
ومنه قوله تعالى : " إليه يرجع الأمر كله " ، وقوله : " قل إن
الأمر كله لله "[1][4]. وقيل : الأمور : جمع أمر
ومعناه الحال والشأن والحادثة والفعل ، ودليله : قوله تعالى : " وما أمر
فرعون برشيد " . أي حاله ( ما هو
عليه من قول أو فعل )[1][5]، والكلام على تقدير مقتضى ، أي : أحكام الأمور بمقاصدها[1][6].
والمقاصد : جمع مقصد ومعناه : الالتزام والتوجه مع الأمّ
، والقصد يأتي بمعنى النية وهو المعنى
المراد هنا[1][7].
فمعنى القاعدة في اللغة : إن الأفعال والتصرفات تابعة
للنيات .
أما المعنى الاصطلاحي : إن أعمال المكلف وتصرفاته من
قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود
الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات[1][8].
ويكون معنى القاعدة : أن الحكم الذي يترتب على أمر يكون
على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر[1][9].
ثالثاً : أهمية القاعدة :
حديث " إنما
الأعمال بالنيات " هو أصل القاعدة ، وهو من الأحاديث الهامة التي
عليها مدار الإسلام . وهو أصل الدين وعليه
تدور غالب أحكامه ، قال الإمام أبو داود : إن هذا الحديث نصف الإسلام ، لأن الدين
إما ظاهر وهو العمل ، وإما باطن وهو النية[1][10].
وقال الإمام أحمد والشافعي : يدخل في حديث " إنما الأعمال بالنيات
" ثلث العلم ، ووجّه البيهقي كونه
ثلث العلم : بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة
وأرجحها ، لأنها قد تكون عبادة مستقلة ، وغيرها يحتاج إليها[1][11].
وبما أن المعنى المراد من القصد والنية متقاربان ، وكثر
استعمال لفظة النية في الدراسة على هذه القاعدة ، كان لابد لنا من البحث فيه .
أولاً :
تعريف النية :
لغة : النية مصدر نوى
الشيء ينويه نية ونواه ، وأصلها نِوْيَة على وزن فعلة ، اجتمعت الواو والياء ،
وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الياء ، فصارت
"نية" ومعناها : العزم على
الشيء ، يقال : نويت نية أي عزمت[1][12].
اصطلاحا : النية لها معنيان ،
معنى عام و معنى خاص .
1 - النية
بمعناها العام : ذكر السيوطي في تعريفه
للنية ، النية : عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً من جلب نفع أو دفع ضر
، حالاً أو مآلاً ، و الشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله
تعالى و امتثال حكمه[1][13].
2- النية بمعناها الخاص : و هو قصد الطاعة و التقرب إلى الله سبحانه و
تعالى[1][14].
ثانياً :
الفرق بين النية والقصد والعزم والإرادة والاختيار
وذهب فريق من العلماء إلى تعريف النية بالعزم والقصد ،
فقيل : " النية القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله "[1][15].
و عرف العزم بأنه عقد القلب على إمضاء الأمر[1][16].
يقال عزمت الأمر و عزمت عليه و اعتزمت ، قال تعالى : {فإذا عزمت فتوكل على الله } (آل عمران: 195)،
وأيضاً : {و لا تعزموا عقدة النكاح }
(البقرة: 235). أما القصد فهو إتيان الشيء ، فتقول : قصدته و قصدت له و قصدت إليه
بمعنى ، و قصدت قصده نحوت نحوه[1][17]، المقصد بالفتح
موضع القصد و المقصد بالكسر يقال إلى مقصدي و جهتي[1][18]. القصد :
الاعتماد و الأمّ[1][19].
وحقيقة النية :ربط القصد بمقصود معين
، والمشهور أنها مطلق القصد إلى الفعل ، قال الماوردي : هي قصد الشيء مقترناً
بفعله ، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم[1][20].
وخصّ إمام الحرمين العزم بالفعل المستقبل ، والقصد
بالفعل الحاضر المتحقق ، يقول في ذلك : " النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم
، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصداً تحقيقياً "[1][21].
ويرى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن النية هي
القصد بعينه ، إلا أن بينها وبين القصد فرقين :
أحدهما : أن القصد معلق بفعل
الفاعل نفسه وبفعل غيره ، والنية لا تتعلق إلا بفعله نفسه . فلا يتصور أن ينوي
الرجل فعل غيره ، ويتصور أن يقصده ويريده .
الثاني : أن القصد لا يكون إلا
بفعل مقدور يقصده الفاعل ، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه .
ويضيف الإمام ابن القيم : النية تتعلق بالمقدور عليه ،
والمعجوز عنه ، بخلاف القصد والإرادة ، فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله
ولا من فعل غيره[1][22].
ونخلص من هذا : أن القصد والنية والعزم في درجة واحدة من
القوة ، فالمرء ينوي فعل أمر حاضر ، أو فعل أمر مستقبل .
أما ما يخص الإرادة فقد قال القرافي : " اعلم أن جنس النية هي الإرادة ،
والإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والعناية والمشيئة
"[1][23].
ونستنتج من كلام الإمام القرافي أن الإرادة تشمل النية
وغيرها ، والإرادة إذا أطلقت تشمل النية وغيرها ، فتعريف النية بالإرادة على ذلك
تعريف غير مانع ، وبالتالي غير صحيح ؛ لأن الإرادة أعم من النية ، وبالإضافة إلى
هذا : أن النية لا تتعلق إلا بفعل الناوي ، أما الإرادة فتتعلق بفعله وفعل غيره[1][24].
يقول ابن عابدين في حاشيته : النية : العزم ، والعزم هو
الإرادة الجازمة القاطعة ، والإرادة صفة توجب تخصيص المفعول بوقت وحال دون غيرها ،
أي ترجح أحد المستويين وتخصيصه لوقت وحال ، أي كيفية وحالة مخصوصة ، وبه علم أن
النية ليست مطلق الإرادة بل هي الإرادة الجازمة[1][25].
واختلف العلماء في الإخلاص ، فمنهم من يرى أنه أمر زائد
على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه[1][26]. ويجعلونه صفة في النية . بينما يرى آخرون أن النية هي تلك الإرادة التي
تقصد الفعل ، أما الإخلاص فهو تلك التي تقصد التوجه بالفعل إلى الله[1][27].
أما عن علاقة النية بالإختيار : فإن النية لها تأثير
كبير في العمل ، فهو مرتبط بها صحة وفساداً ، ولكن هل المكلف قادر على توجيه نيته
وتحديدها ، أم أن النية أمر قهري لا سلطان للمكلف عليها ولا يستطيع التصرف فيها ؟
الجواب أن يقال : أن النية عمل القلب ، وعمل القلب مطلق
للمكلف مقدور له داخل تحت الإختيار ، فهو مأمور بإخلاص النية وتصفيتها وتحديد
المقصود بها ، ومنهي عن الإشراك في النية وعدم تصفيتها وأن ينحرف بنيته إلى غير ما
أمر به ، وهذه أمور استطاعة المكلف وقدرته ولو لم يكن كذلك لكان الأمر بالإخلاص
والنهي عن الإشراك تكليفاً بما لا يطاق .
والإنسان قادر على تحديد نيته وتوجيهها وإخلاصها ، كما أنه قادر على صرف
نيته عما لم يرد منه شرعاً ، ذلك أن الله ركب في الإنسان العقل وجع له إرادة واختيار
وأبان له طريق الخير ووضحه له ودعاه إليه ، ووعده على ذلك .
فالنية من أعمال المكلفين التي يطيقونها ويقدرون عليها
وما على المكلف إلا الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى إخلاص النية[1][28].
ثالثاً :
حكم النية :
النية عبادة مشروعة ، وقد اختلف في كونها ركناً أو شرطاً
، أو هي ركن في بعض العبادات شرط في غيرها .
النية في العبادة المقصودة كالصلاة والحج والصوم ركن من
أركانها فلا تصح إلا بها وأما ما كان
وسيلة كالوضوء والغسل ، فقالت الحنفية : هي شرط كمال فيها لتحصيل الثواب وقالت الشافعية وغيرهم : هي شرط صحة أيضاً ،
فلا تصح الوسائل إلا بها[1][29].
رابعاً :
فيما شرعت النية لأجله :
المقصود الأهم من النية : تمييز العبادات عن العادات ، وتمييز رتب
العبادات بعضها عن بعض ، كالوضوء والغسل ، يتردد بين التنظيف والتبرد ، والعبادة ،
والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي ، أو لعدم الحاجة إليه ، والجلوس في
المسجد قد يكون للاستراحة . ودفع المال للغير قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي وقد
يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة . والذبح قد يكون بقصد الأكل وقد يكون للتقرب
بإراقة الدماء . فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها ، وكل من الوضوء والغسل
والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضاً أو نذراً أو نفلاً ، والتيمم قد يكون عن
الحدث أو الجنابة وصورته واحدة ، فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض[1][30]. ونية التقرب تمتنع من الكافر بخلاف نية التمييز
، ولهذا لو ظاهر صح ويكفر بالعتق ولابد من النية ، وكذا لو حاضت الكافرة واغتسلت
لتحل لزوجها المسلم فلابد أن تنوي بإباحة الاستمتاع ، فإن لم تنو لم يباح وطؤها[1][31].
وترتب على ذلك أمور :
الأمر الأول : عدم اشتراط النية في
عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها .
كالإيمان بالله تعالى والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن
والأذكار ؛ لأنها متميزة بصورتها[1][32].
فلا تحتاج هذه الأعمال إلى نية الإضافة أو نية التخصيص
فإن هذه الأعمال بطبيعتها منصرفة إلى الله تعالى لا يستحقها سواه فلا يلزم العامل
أن ينوي أنه يسبح لله أو يذكره أو يعبده ، لكن هذه الأعمال تحتاج إلى نية القصد
وإرادة وجه الله سبحانه بهذه الأعمال فيؤدي هذه الأنواع من العبادات بنية الإخلاص
والمحبة والتعظيم لله والرجاء لثوابه و الخوف من عقابه[1][33].
وهناك مسائل اختلف في اشتراط النية لها ، كالأذان وخطبة
الجمعة وغسل الميت والخروج من الصلاة[1][34].
الأمر الثاني : اشتراط التعيين فيما
يلتبس دون غيره .
ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " إنما
الأعمال بالنيات " : اشتراط التعيين ، ومنها الفرائض كالظهر والعصر لتساويهما
فعلاً وصورةً ، فلابد من التمييز بينهما ولا تمييز إلا بالتعيين . ومنها : النوافل
غير المطلقة كالرواتب ، فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلاً ، وكونها التي قبلها أو
التي بعدها .
ومنها : التحية وسنة الوضوء وصلاة الاستخارة والحاجة
وسنة الزوال ، والصوم .
أما ما لا يشترط فيه التعيين : الطهارات والحج والعمرة ،
لأنه لو عيّن غيرها انصرفت إليها وكذا الزكاة والكفارات[1][35].
ويترتب على اشتراط التعيين أن العبادة التي يشترط لها
تعيين النية لو أخطأ المكلف في نيتها أنها تبطل ، كمن أراد أن يصلي الظهر فنوى
العصر ، فلا يصح ظهراً ولا عصراً قبل دخل وقته[1][36].
وتدخل النية جميع القرب ، فيتوقف حصول الثواب على قصد
التقرب بها إلى الله تعالى ، فتدخل النية في العبادات ، أما الواجب الذي لم يشرع
عبادة كرد المغصوب فلا يشترط فيه لآن القصد وصول الحق إلى مستحقه وذلك حاصل بدونها
، أما المندوبات فتفتقر إلى قصد إيقاعها طاعة ليثاب عليها . وأما المباحات فلا
تفتقر إلى النية إلا إن أريد الثواب عليها ، والمحرمات لا تفتقر إلى نية للترك[1][37].
الأمر الثالث : النيابة في النية
مما يترتب على التمييز : الإخلاص ، ومن ثم لم يقبل
النيابة ؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة[1][38]. فمنها ما لا يتقبل بالإجماع كالإيمان بالله
والصلاة والصوم عن الحي القادر والجهاد عنه .
ومنها ما يقبلها إجماعاً كالدعاء والصدقة والحج عن الميت
وركعتي الطواف تبعاً له ورد الديون والودائع .
ومنها ما فيه خلاف : كالصوم عن الميت والحج عن الحي
وثواب القراءة عند الشافعي رضي الله عنه[1][39].
ويجوز التوكيل في النية إذا اقترنت بفعل كتفرقة زكاة أو
ذبح أضحية أو صوم عن الميت أو حج[1][40].
مسائل على التشريك في النية :
- ما لو نوى
الوضوء أو الغسل والتبرّد ، ففي وجه لا يصح للتشريك ، والأصح الصحة ؛ لأن التبرّد
حاصل ، قصده أم لا ، فلم يجعل قصده تشريكاً وتركاً للإخلاص ، بل هو قصد للعبادة
على حسب وقوعها ؛ لأن من ضرورتها حصول التبرّد .
- ومنها : ما لو
نوى الصلاة ودفع غريمه ، صحت صلاته ؛ لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد .
- لو نوى الطواف
وملازمة غريمه ، أو السعي خلفه ، والأصح الصحة ، فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ؛
لأنه إنما يصح بدونها ؛ لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه ، فإذا قصد ملازمة
الغريم ، كان ذلك صارفاً له ، ولم يبق للاندراج أثر[1][41].
خامساً :
شروط صحة النية :
1 - الإسلام :
فلا تصح
العبادات من الكافر[1][42]؛ لأن العبادة تحتاج إلى نية ، والعبادة لا تصح منه لأنه فاقد شرط
صحة قبول العبادة ، وهو الإيمان بالله تعالى[1][43].
وخرج من ذلك صور :
- الكتابية تحت المسلم ،
يصح غسلها من الحيض ليحل وطؤها بلا خلاف ، للضرورة ويشترط نيتها[1][44]، بخلاف
الحنفية[1][45].
2 - التمييز :
ومعناه : القوة التي في الدماغ وبها تستنبط المعاني[1][46]، فلا تصح
عبادة صبي لا يميز ولا مجنون[1][47].
ومن فروع هذا الشرط :
مسألة عمد الصبي
والمجنون في الجنايات ، هل هو عمد أو لا ؟ لأنه لا يتصور منهما القصد ، فيه خلاف
عند الشافعية : فمن له نوع تمييز فإن عمده عمد ، وإلا فإن عمده خطأ ، والأصح عندهم
أن عمدهما عمد[1][48]. وعند الحنفية : فإن
عمدهما خطأ[1][49].
3 - العلم
بالمنوي :
ومعناه : أن يعلم المكلف حكم ما نواه من فرض أو نفل ،
عبادة أو غيرها[1][50].
فمن جهل الفرضيّة ، فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه
فعلها ، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها . وإن علم الفرضية وجهل الأركان ، فإن اعتقد الكل
سنّة أو البعض فرضاً والبعض سنّة ولم يميزها لم تصح قطعاً ، أو الكل فرضاً فوجهان
: أصحهما : الصحة ؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه إدّى سنّة باعتقاد الفرض وذلك لا
يؤثر[1][51].
ومن فروع هذا الشرط :
قوله : بعتك بمثل ما باع به فلان فرسه ، وهو لا يعلم
قدره فإن البيع لا يصح[1][52].
4 - أن لا يأتي
بمنافٍ بين النية والمنوي :
المراد بالمنافي :
العمل الخارج عن المنوي وليس من النية ، كمن ارتد بعد نية العبادة فقد بطلت
عبادته[1][53].
أنواع المنافي :
أ - نية
القطع : فإذا نوى قطع الإيمان – والعياذ
بالله – صار مرتداً في الحال[1][54]. ومن نوى قطع الصلاة أثناءها بطلت لأنها شبيهة
بالإيمان[1][55]. ولم تبطل عند الحنفية[1][56].
ب - عدم القدرة
على المنوي ، إما عقلاً ، وإما شرعاً ، وإما عادة :
فمن الأول : نوى بوضوئه أن يصلى صلاة ولا يصليها : لم
يصح لتناقضه .
ومن الثاني : نوى به الصلاة في مكان نجس ، قيل : ينبغي
أن لا يصح .
ومن الثالث : نوى به صلاة العيد وهو في أول السنة ، أو
الطواف وهو بالشام ، ففي صحة وضوئه خلاف[1][57].
جـ - التردد
وعدم الجزم في أصل النية :
- فإذا تردد :
هل يقطع الصلاة أو لا ؟ أو علق إبطالها على شيء بطلت وكذا في الأيمان[1][58].
- من اشترى خادماً للخدمة
، وهو ينوي إن أصاب ربحاً باعه ، لا زكاة عليه[1][59].
- تيمم أو صلى أو صام
شاكاً في دخول الوقت ، فبان في الوقت لم تصح[1][60].
ذكر صور صحت فيها النية مع تردد أ وتعلق :
-
من
صلى منفرداً ، ثم أعاد مع جماعة ونوى الفرضية ، ثم بان فساد الأولى ، فإن الثانية
تجزيه ، ولا يلزم الإعادة .
-
عليه
صوم واجب ، لا يدري هل هو من رمضان أو نذر أو كفارة ، فنوى صوماً واجباً أجزأه ،
كم نسي صلاة من الخمس ، ويعذر في عدم النية للضرورة[1][61].
-
نوى
ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد ، إن كان من رمضان فهو فرض ، وإن لم يكن فتطوع صحيح
.
-
شك
في قصر إمامه ، فقال : إن قصر قصرت ، وإلا أتممت ، فبان قاصراً قصر[1][62].
الفصل الثاني
بعض القواعد الخاصة
بقاعدة : " الأمور بمقاصدها "
المبحث الأول :
بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة : " الأمور بمقاصدها "
أولاً : هل
العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها ؟
هذه المسألة خلافية قامت على تفسير الأساس الذي يقوم
عليه العقد . فقد عُرِّف العقد بأنه : " ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع
يثبت أثره في كله " .
وأوضح الشيخ محمد أبو زهرة في مسألة هل لغير الألفاظ
تأثير في إنشاء العقود ؟
إن الأقوال في ذلك ثلاثة :
أ- العقود لا تنعقد إلا
بالأقوال ، ولا تنعقد بالأفعال إلا عند العجز عنها . وهو ظاهر مذهب الإمام الشافعي
.
ب-
الأصل
في العقود أن تكون بالألفاظ بلا ريب ولكن قد تقوم الأفعال مقام الألفاظ إذا وجدت
قرائن تدل على الرضا وتعلن الإرادة ، وهو قول في مذهب الإمام أحمد ، وهذا القول
يسير على أصول أي حنيفة .
ت-
أن
العقود تنعقد بكل ما يدل على مقصودها من قول أو فعل ، وهذا القول هو الغالب على
أصول الإمام مالك وظاهر مذهب الإمام أحمد[1][63].
وقد اختلف في صيغة هذه
القاعدة عند فقهاء المذاهب :
-
فعند الحنفية والمالكية : " العبرة في العقود
بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني " .
-
وعند الشافعية : " هل العبرة بصيغ العقود أو
بمعانيها "[1][64]؟
ومن مسائلها :
-
إذا وهب بشرط الثواب ، فهل يكون بيعاً اعتباراً بالمعنى
، أو هبة اعتباراً باللفظ ؟ الأصح : الأول[1][65].
-
إذا وكله أن يطلق زوجته طلاقاً منجزاً وكانت قد دخلت
الدار فقال لها : إن كنت دخلت الدار فأنت طالق ، فهل يقع الطلاق ؟ فيه وجهان ،
لأنه منجز من حيث المعنى معلق من حيث اللفظ .
- إذا اشترى جارية بعشرين
.
- لو قال : أحلتك بشرط أن
لا تبرأ ، ففيه قولان ، والأصح : فساده[1][66].
فالعقد هنا لا يكون عقد حوالة لأن الحوالة هي نقل ذمة
إلى ذمة أخرى . وهنا بقيت ذمة المدين مشغولة بالدين والذي قصده هنا عقد كفالة وهو
ضم ذمة إلى ذمة أخرى . فأصبح المحال عليه كفيلاً بالدين والمدين أصيلاً[1][67].
ثانياً : هل النية تخصص اللفظ العام أو تعمم
اللفظ الخاص ؟
العام في اللغة :
معناه الشامل لمتعدد سواء كان لفظاً أم غير لفظ . ومنه : عمّهم المطر . أي شملهم . ومطر عام : أي
شامل .
والعام في الاصطلاح : اللفظ المستغرف لما يصلح له – بحسب
الوضع – دفعة من غير حصر .
وأما الخاص والتخصيص في اللغة : فهو تفرد بعض الشيء بما
لا يشاركه فيه الجملة وهو خلاف العموم .
والخاص في الاصطلاح :
إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص ، أو : قصر العام
على بعض افراده[1][68].
هناك خلاف بين المذاهب في مضمون القاعدة : فقد اتفق
المالكية والحنابلة على مضمونها ، فقالوا : النية تعمم الخاص وتخصص العام[1][69].
وذكر الشافعية أن النية في اليمين تخصص اللفظ العام ،
ولا تعمم الخاص ، مثال الأول : أن يقول : والله لا أكلم أحداً ، وينوى زيداً
. ومثال الثاني : أن يمن عليه رجل بما نال
منه ( وفي نسخة : أن يمر عليه بماء نال منه ) فيقول : والله لا أشرب منه ماء من
عطش ، فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة ، ولا يحنث بطعامه وثيابه ، ولو نوى
أن لا ينتفع بشيء منه ، ولو كانت المنازعة تقتضي ذلك ، لأن النية إنما تؤثر إذا
احتمل اللفظ ما نوى ، بجهة يتجوز بها[1][70].
أما جمهور الحنفية قالوا : تخصيص العام بالنية مقبولة
ديانة لا قضاءً[1][71]، ومعناه : أن ادعاء الحالف التخصيص غير مقبول في الحكم – إذ يعتبر
حانثاً وتجب عليه الكفارة – ولكنه يدين به بينه وبين الله تعالى[1][72]. ومن أمثلته عندهم : كل امرأة أتزوجها فهي طالق
، ثم قال : نويت من بلدة كذا ، لم يصح في ظاهر المذهب[1][73].
فتخصيص اللفظ العام في اليمين بالنية متفق عليه بين
المالكية والشافعية والحنابلة ، وأما تعميم الخاص بالنية فهو جائز على الإطلاق عند
المالكية والحنابلة . ومنع الشافعية تعميم
الخاص بالنية على الإطلاق وكذا الحنفية على الراجح ، لأنهم يمنعون عموم المشترك ،
فهذا أولى بالمنع .
وتعتبر هذه القاعدة مستثناة من قاعدة " الأمور
بمقاصدها " إن أخذنا برأي الحنفية والشافعية ؛ لإهمالهم النية وتمسكهم باللفظ
.
وقد خالف الحنفية في هذه القاعدة النهج الذي ساروا عليه
في قاعدة العقود حيث غلبوا هناك القصد على اللفظ ، وسبب الخلاف عندهم : القاعدة
" هل الأيمان مبنية على الألفاظ أو على الأغراض ؟ "[1][74].
ثالثاً :
هل الأيمان مبنية على الألفاظ أو على الأغراض ؟
في هذه القاعدة خلاف بين المذاهب : فعند المالكية والحنابلة أن الأيمان مبنية على
النيات ، إذ مبنى اليمين عندهم على نية الحالف إذا احتملها اللفظ ولم يكن ظالماً ،
سواء كان موافقاً لظاهر اللفظ أم مخالفاً له .
وأما عند الحنفية والشافعية فإن الأيمان مبنية عندهم على الألفاظ إن أمكن
استعمال اللفظ[1][75]. فلو اغتاظ من إنسان فحلف
أنه لا يشتري له شيئاً بفلس ، فاشترى له شيئاً بمائة درهم ؛ لم يحنث ، ولو حلف
لايبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر أو بتسعة لم يحنث مع أن غرضه الزيادة ، لكن لا حنث
بلا لفظ[1][76].
ومن فروع هذه القاعدة :
-
لو
كان اسمها طالقاً أو حرة ، فناداها ؛ إن قصد الطلاق أو العتق وقعا ، أو النداء فلا
، أو أطلق ، فالمعتمد عدمه .
-
ولو
كرّر لفظ الطلاق ، فإن قصد الاستئناف وقع الكل ، أو التأكيد فواحدة ديانة والكل
قضاءً وكذا إذا أطلق .
-
ولو
قال : أنت عليّ حرام مثل أمي ، رُجع إلى قصده لينكشف حكمه ، فإن نوى ظهاراً فهو
ظهار ، وإن نوى الطلاق ، وقع طلاقاً بائناً[1][77].
المبحث الثاني :
القواعد المستثناة من قاعدة " الأمور بمقاصدها "
أولاً :
من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه
أو: يعامل السيء
النية في التصرف بتقيض قصده ، أو : من قصد
بتصرفه غرضاً غير مشروع عومل بنقيض قصده[1][78].
فمن يتوسل بالوسائل غير المشروعة تعجلاً منه للحصول على
مقصوده المستحق له فإن الشرع عامله بضد مقصوده ، فأوجب حرمانه جزاء فعله واستعجاله[1][79].
ومن فروع هذه القاعدة :
-
حرمان
القاتل موروثه عن الإرث[1][80].
-
إذا
خللت الخمرة بطرح شيء فيها ، لم تطهر[1][81].
-
إذا
طلق في مرض موته – بدون رضاها – فراراً من الإرث ، نفذ[1][82].
وخرج عنها صور ، منها :
-
لو
قتل المدبر سيده عتق ، ولكن يسعى في جميع قيمته ؛ لأنه لا وصية لقاتل .
-
ولو
قتل صاحب الدين المديون ، حلّ دينه[1][83].
ثانياً : الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها
محبوب
الإيثار : معناه تفضيل الغير على نفسه وتقديمه عليه ،
ومنه قوله تعالى : " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
والإيثار نوعان : إيثار الغير على النفس في الحظوظ
الدنيوية وهو محبوب مطلوب ، كمن آثرغيره على نفسه بطعامه أو بشرابه مع حاجته إليه
، وهذا النوع قد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً ، وهو المقصود في هذه القاعدة[1][84].
وتعليل المقصود : أن الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال ،
فمن آثر به فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه .
فلو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به ، لم يجز لأن
الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس ، لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات[1][85].
ومثال كونه مكروهاً : إيثار الطالب غيره بنوبته في
القراءة لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة[1][86].
وأشكل على هذه القاعدة : من جاء ولم يجد في الصف فرجة ، فإنه يجر شخصاً
بعد الإحرام ، ويندب للمجرور أن يساعده فهذا يفوت على نفسه قربة ، وهو أجر الصف
الأول[1][87].
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال : بأن المجرور وإن فاته
قربة الصف الأول إلا أنه حصل على قربة أخرى ، وهي عدم ترك أخيه المسلم يصلي
منفرداً حتى لا يقع في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة للفذ خلف الصلاة " ، وهو
بهذا يدخل تحت القاعدة الكبرى : " الأمور بمقاصدها " .
الخاتمة
من أهم النتائج التي توصّل إليها البحث :
1 - أهمية الحديث الشريف : " إنما الأعمال
بالنيات " ، وأنه يدخل فيه ثلث العلم ، وهو أصل قاعدة " الأمور بمقاصدها
" .
2 - النية لها معنيان : عام وخاص .
3 - النية والعزم والقصد في درجة واحدة من القوة ،
حيث أن العزم : عقد القلب على إمضاء الأمر .
والقصد : إتيان الشيء . والنية : القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله.
4 - النية تكون ركناً في العبادات المقصودة ، مثل :
الصلاة والصوم والحج ، باتفاق . وشرطاً في
الوسائل ، على خلاف : هل شرط صحة أم كمال ؟
5 - شرعت النية لتمييز العبادات عن العادات ،
وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض .
6 - لا تشترط النية في عبادة لاتكون عادة ،
كالإيمان بالله ، وكذلك عبادة لا تلتبس بغيرها.
7 - تشترط النية فيما يلتبس ، مثل : الفرائض ،
والنوافل غير المطلقة .
8 - لا تقبل النيابة في النية ، كالإيمان بالله
تعالى ، والصلاة عن الحي القادر ، ويقبل الدعاء والحج وغيرهما عن الميت .
9 - يجوز التوكيل في النية إذا اقترنت بفعل كتفرقة
زكاة .
10- لصحة النية
شروط : الإسلام ، التمييز ، العلم بحكم المنوي– فرض أو نفل أو غيره – وأن لا يأتي
بمنافٍ بين النية والمنوي ،كالقطع وعدم القدرة على المنوي والتردد وعدم الجزم.
11- من القواعد
المندرجة تحت قاعدة : " الأمور
بمقاصدها " :
أ - هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها ؟
اختلف العلماء
فيها على ثلاثة أقوال :
- تنعقد العقود بالأقوال
، وبالأفعال عند العجز عنها ، وهو قول الشافعية .
- تنعقد العقود بالأقوال
، وتقوم الأفعال مقام الأقوال إذا وجدت قرائن تدل على الرضا ، وهو قول في مذهب
الإمام أحمد ، ويسير على أصول الإمام أبي حنيفة .
- تنعقد العقود بكل ما
يدل على مقصودها من قول أو فعل ، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد والغالب على أصول
الإمام مالك .
ب - هل النية تخصص اللفظ العام أو تعمم اللفظ الخاص
؟
اتفق المالكية والحنابلة على أن النية تعمم
الخاص وتخصص العام ، بينما يرى الشافعية أن النية في اليمين تخصص اللفظ العام ،
ولا تعمم الخاص . وأما جمهور الحنفية
قالوا : تخصيص العام بالنية مقبولة ديانة لا قضاء .
جـ - هل الأيمان
مبنية على الألفاظ أو على الأغراض ؟
يرى المالكية والحنابلة أن الأيمان مبينة على النيات ،
بينما يرى الشافعية والحنفية أن الأيمان مبنية على الألفاظ .
12- من القواعد
المستثناة من قاعدة " الأمور بمقاصدها " :
أ- من قصد بتصرفه غرضاً غير مشروع عومل بنقيض مقصوده ،
كحرمان القاتل موروثه من الإرث .
ب - الإيثار في
القرب مكروه ، وفي غيرها محبوب .
والإيثار المقصود هو إيثار الحظوظ الأخروية .
13- وصف الفعل بالحل والحرمة بناءً على قصد فاعله ،
والأحكام الشرعية في أمور الناس ومعاملاتهم تتكيف حسب قصدهم – نيتهم – من إجرائها
، فقد يعمل الإنسان عملاً بقصد معين فيترتب على عمله حكم معين ، وقد يعمل نفس
العمل بقصد آخر فيترتب على عمله حكم آخر.
*باحثة سعودية متخصصة في الفقه وأصوله.
الهوامش والمراجع
No comments:
Post a Comment